فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ أَوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» يعني: إن الله ناصره وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما بعث الله نبيًا بعد لوط، إلا في عز من قومه.
ويقال: لما أرادوا الدخول، وضع جبريل يده على الباب، فلم يقدروا على فتحه، فكسروا الباب ودخلوا فامتلأت داره، فمسح جبريل جناحه على وجوههم فذهبت أعينهم، كما قال في آية أُخرى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} [القمر: 37] فرجعوا وقالوا: يا لوط جئت بالسحرة حتى طمسوا أعيننا، والله لنهلكنك غدًا.
فلما سمع لوط تهديدهم إياه، ساءه صنيع القوم وخاف، فلمَّا رأى جبريل ما دخله: {قَالُواْ يا لُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} يعني: لن يقدروا أن يصنعوا بك شيئًا، {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} يعني: سر وادلج بأهلك: {بِقِطْعٍ مّنَ الليل}.
قال الكلبي: القطع من الليل، آخر السحر، وقد بقيت منه قطعة.
وقال السدي: سألت أعرابيًا عن قوله: {بِقِطْعٍ مّنَ الليل} قال: ربع الليل: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} يعني: لا يتخلف منكم أحد: {إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا} من العذاب، {مَا أصابهم}.
قرأ ابن كثير، ونافع: {فَأَسْرِ} بجزم الألف، وقرأ الباقون: {فَأَسْرِ}، ومعناهما واحد.
يقال: سريت وأسريت، إذا سرت بالليل.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، {إِلاَّ امرأتك} بضم التاء، وقرأ الباقون بالنصب.
فمن قرأ بالنصب، انصرف إلى الإسراء، يعني: أسر بأهلك إلا امرأتَكَ، على معنى الاستثناء؛ وفي قراءة ابن مسعود: فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتَكَ.
ومن قرأ بالضم، فهو ظاهر، يعني: أنها تتخلف مع الهالكين.
وقال لوط، لجبريل عليه السلام: إن أبواب المدينة قد أُغلقت، فجمع لوط أهله وابنتيه ريثا وزغورا، فحمل جبريل لوطًا، وابنتيه، وماله على جناحه إلى مدينة ذعر، وهي إحدى مدائن لوط، وهي خمس مدائن، وهي على أربعة فراسخ من سدوما، ولم يكونوا على مثل عملهم.
فقال له جبريل: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} يعني: هلاكهم وقت الصبح.
فقال لوط: يا جبريل، الآن عجل هلاكهم.
فقال له جبريل: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} فلما كان وقت الصبح، أدخل جبريل جناحه تحت أرض المدائن الأربعة، فاقتلعها من الماء الأسود، ثم صعد بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح وصياح الديك.
ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض فذلك قوله: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً}.
قال وهب بن منبه: لما رفعت إلى السماء، أمطر الله عليهم الكبريت والنار، ثم قلبت.
وقال مقاتل: أمطر على أهلها من كان خارجًا من المدائن الأربعة، حجارة: {مّن سِجّيلٍ} يعني: من طين مطبوخ، كما يطبخ الآجر، {مَّنْضُودٍ} يعني: متتابع بعضه على أثر بعض.
وقال مجاهد: سجيل بالفارسية: سنج وجك، كقوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33] وروي عن ابن عباس، في بعض الروايات، قال: سنك وكل.
وقال أبو عبيدة: السجيل: الشديد، منضود: أي ملتزق بالحجارة.
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ} قال الفراء مخططة بالحمرة، والسواد في البياض.
وقال أبو عبيدة: مسومة، أي: معلمة.
ويقال: مكتوب على كل حجر، اسم صاحبه الذي يصيبه.
ويقال: مختمة.
وقال وكيع: رفع إلي حجر منها بطرسوس.
ثم قال: {وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} يعني: من قوم لوط عليه السلام ويقال: هذا تهديد لأهل مكة، وغيرهم من المشركين.
فقال: {وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} لكيلا يعملوا مثل عملهم.
ويقال: ما هن من الظالمين ببعيد.
قريات لوط ليست ببعيدة من أهل مكة، فأمرهم بأن يعتبروا بها.
وقال الزجاج: سجيل، يعني: ما كتب لهم أن يعذبوا به.
ويقال: سجيل من سجلته، يعني: أرسلته، ومعناه: حجارة مرسلة عليهم، ويقال: كثيرة شديدة. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} يعني الملائكة، واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: كانوا ثلاثة: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل. الضحّاك: تسعة، السدّي: أحد عشر، وكانوا على صورة الغلمان الوِضاء وجوههم.
{إِبْرَاهِيمَ} الخليل: {بالبشرى} بالبشارة بإسحاق ويعقوب، وبإهلاك قوم لوط: {قَالُواْ} لإبراهيم: {سَلاَمًا} سلّموا عليه ونصب: {سَلاَمًا} بإيقاع القول عليه، لأن السلام قول أي مِثل قالوا وسلّموا سلامًا (قال) إبراهيم (سلام) أي عليكم سلام، وقيل: لكم سلام وقيل: رُفِع على الحكاية، {قيل الحمد لله} {وقولوا حطّة}، وقرأ حمزة والكسائي سِلام بكسر السين من غير ألف ومثله في والذاريات، وكذلك هو في مصحف عبد الله ومعناه: نحن سِلام صالح لكم غير حرب، وقيل: هو بمعنى السِلم أيضًا كما يقال: حِل وحلال، وحِرم وحرام. وأنشد الفراء:
مررنا فقلنا إيه سلّم فسلمت ** كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

{فَمَا لَبِثَ} فما أقام ومكث إبراهيم: {أَن} بمعنى حتى بإسقاط الخافض أي بأن: {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قال ابن عباس: مشوي بالحجارة الحارة في خد من الأرض، قتادة ومجاهد: نضج بالحجارة وشوي، ابن عطية: شوي بعضه بحجارة، أبو عبيدة: كل ما أسخنته فقد حنذته فهو حنيذ ومحنوذ وأصل يحنذ أن إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق.
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي للعجل: {نَكِرَهُمْ} أي: أنكرهم، ويقال: نكرت الشيء وأنكرته بمعنى واحد. قال الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلاّ الشيب والصلعا فجمع المعنيين في وقت واحد.
{وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أضمر وأحسّ منهم خوفًا، وقال مقاتل: وقع في قلبه، الأخفش: خامر نفسه. الفرّاء: استشعر. الحسن: حدّث نفسه، وأصل الوجوس الدخول، وكان الخوف دخل قلبه. قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ لخير وأنّه يحدّث نفسه بشرّ.
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} يا إبراهيم فإنّا ملائكة الله: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} قال الوالبي: لمّا عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب؛ لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب، نظير ما في الحجر: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق} [الحجر: 8] أي بالعذاب، قالت الملائكة: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط لا إلى قومك.
{وامرأته} سارة بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغوا بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم: {قَائِمَةٌ} من وراء الستر تسمع كلام الملائكة وكلام إبراهيم، وقيل: كانت قائمة [...] الرسل وإبراهيم جالس معهم فهو كلام أوّلي، وقرأ ابن مسعود: {وامرأته قائمة وهو جالس فَضَحِكَتْ}.
واختلفوا في العلة الجالبة للضحك، فقال السدي: لما قرب إليهم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم فظنهم لصوصًا، فقال لهم: ألا تأكلون؟ فقالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعامًا إلاّ بثمن، قال: فإن لهذا ثمنًا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله وتحمدون على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال: حق أن يتخذك خليلا، فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه نكرهم، فضحكت سارة وقالت: إنا قمنا لأضيافنا هؤلاء أنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال قتادة: فضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل والكلبي: فضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر وهو فيما بين خدمه وحشمه، وقال ابن عباس ووهب: ضحكت عجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنّها وسنّ زوجها، وقالوا: هو من التقديم الذي معناه التأخير، وكان بمعنى: [......] وامرأته قائمة.
{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فضحكت وقالت: {قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} الآية، وقيل: ضحكت سرورًا بالأمن عليهم لما قالوا: لا تخف وقال مجاهد وعكرمة: فضحكت أي حاضت في الوقت، تقول العرب: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وقال الشاعر:
وضحكت الأرانب فوق الصفا ** كمثل دم الخوف يوم اللقا

{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قال ابن عباس والشعبي: الوراء ولد الولد، واختلف القّراء في قوله: يعقوب، فنصبه ابن عامر وعاصم وقيل: في موضع جر في الصفة أي من وراء إسحاق بيعقوب، فلمّا حذف الباء نصب، وقيل: بإضمار فعل له، ووهبنا له يعقوب. ورفعه الآخرون على خبر حذف الصفة، فلمّا بُشّرت بالولد والحفيد: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات: 29] أي ضر الله تعجبًا: {قَالَتْ ياويلتى} والأصل: يا ويلتاه: {أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} وكانت لتسعين سنة في قول ابن إسحاق، وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد.
{وهذا بَعْلِي} زوجي سمي بذلك لأنه قيّم أمرها كما سمّي مالك الشيء بعله، والنخل الذي استغنى بالأمطار عن ماء الأنهار يسمّى بعلا: {شَيْخًا} وكان إبراهيم ابن مائة سنة في قول مجاهد، وعشرين ومائة سنة في قول ابن إسحاق.
{إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} فقالت الملائكة: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} يعني هنا إبراهيم: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} قال السدّي: قالت سارة لإبراهيم-عليه السلام-: ما آية قولك؟ قال: فأخذ بيده عودًا يابسًا فلواه بين أصابعه، فاهتزّ أخضر فقال إبراهيم: هو لله إذًا ذبيحًا.
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} الخوف: {وَجَاءَتْهُ البشرى} بإسحاق ويعقوب: {يُجَادِلُنَا} في [.......] لأنّ إبراهيم لا يجادل ربّه إنّما يسأله ويطلب إليه.
وقال عامّة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا وذلك أنهم لما قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا لا، فقال إبراهيم: وأربعون؟ قالوا: لا، قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا، قال: حتى بلغ عشرة، قالوا: لا، فقال: خمسة قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه؟ قالوا: لا، فقال إبراهيم عند ذلك: إن فيها لوطًا، فقالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجّينه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين.
قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، قال قتادة: في هذه الآية لا يرى مؤمن إلاّ لوط المؤمن، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم: {يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي دع عنك الجدال، وأعرض عن هذا المقال: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبَّكَ} عذاب ربك: {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} نازل بهم، يعني قوم لوط: {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} غير مدفوع ولا ممنوع.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} يعني الملائكة: {لُوطًا سياء بِهِمْ} حزن لمجيئهم، يقال: سؤته فسيء مثل شغلته فانشغل، وسررته فانسر: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قلبًا: {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديد، ومنه عصبصب، كالعصب به الشر والبلاء أي شدّ ومنه عصابة الرأس، قال عدي بن زيد:
وكنت لزاز خصمك لم أعرد ** وقد سلكوك في يوم عصيب

وقال آخر:
وانك إلاّ تُرض بكر بن وائل ** يكن لك يوم بالعراق عصيب

وقال الراجز:
يوم عصيب يعصب الأبطالا ** عصب القوي السلم الطوالا

وذلك أن لوطًا عليه السلام لم يكن يعلم أنهم رسل الله في تلك الحال، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه.
قال قتادة والسدّي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطًا وهو في أرض يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطًا أربع شهادات، واستضافوه فانطلق معهم، فلمّا خشي عليهم، قال لهم: ما بلغكم، أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملا يقول، ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط.
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس وقتادة والسدّي: يُسرعون، ومجاهد: يهرولون، الضحاك: يسعون، ابن عيينة: كأنهم يُدفعون، شمر بن عطية: مشي بين الهرولة والجمزى، الحسن: مشي بين مشيتين، قال أهل اللغة: يقال: أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مُهرع إذا كان معجلا مسرعًا، قال مُهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أُسارى ** يقودهم على رغم الأنوفِ

وقال الراجز:
بمعجلات نحوه مهارع

{وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان: {ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} واختلفوا في معنى قوله، قال محمد بن الفضل: يعني على شريعة الإسلام. وقال تميم: فلعلّ ذلك إلاّ إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزًا كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد بقوله بناتي: النساء، وكلّ نبي أبو أمّته. وقرأ بعض القراء: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وهو أب لهم، وقال بعضهم: كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه، زعوراء وريثا.
وقوله: {هنّ أطهر لكم} قراءة العامة برفع الراء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو: {أطهر} بالنصب على الحال، فإن قيل: فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم؟ قيل: ليس هذا زيادة النسل، إنما يقال ليس ألف {أطهر} للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس: الله أكبر، فهل يكابر الله أحد حتى يكون هو أكبر منه؟ ويدلّ عليه ما روي «عن أبي سفيان حين قال يوم أحد: أعلُ هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: قل الله أعلى وأجل»، وهبل لم يكن قط عاليًا.
{فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} أي لا تهينوني فيهم بركوبهم، وهم لا يركبون، وعجزي من دفعهم عنهم. وقيل: أراد ولا تشهروني بهم. تقول العرب: خزي خزيًا إذا افتضح، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء، قال ذو الرمة:
خزاية أدركته بعد جولته ** من جانب الحبل مخلوطًا بها الغضب

{أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} صالح، قال ابن عباس: معناه رجل يأمر المعروف وينهى عن المنكر.
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي ليس لنا أزواجًا (نلتصقهنّ) بالتزويج: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الأضياف، فقال لهم لوط عند ذلك: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} أي منعة وشيعة تنصرني: {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة، وجواب: {لَوْ} مضمر [تقديره: لرددت أهل الفساد]، وقالوا: ما بعث الله بعده نبيًا إلاّ في ثروة من قومه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: «رحم الله أخي لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد».
قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إنّ ركنك لشديد وإنهم آتيهم عذاب غير مردود: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} فافتح الباب ودعنا وإيّاهم ففتح الباب ودخلوا، استأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم هو برّاق الثنايا أجلى الجبين، ورأسه حبك حبك مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنّه ثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك، امضِ يا لوط من الباب، ودعني وإيّاهم، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب به وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقًا ولم يهتدوا إلى بيوتهم.